تقوم العديد من الدول العربية اليوم بتعديل دساتيرها نتيجة للثورات التي قامت فيها أو خوفاً من حدوث مثل هذه الثورات.
ويكثر الكلام حول الشكل الأنسب لهذه الدساتير ومن سيقوم بكتابتها وكيف ستشرع هذه النصوص لمستقبل البلاد وترضي تطلعات شعوبها للديموقراطية. وصارت الخطابات المتضاربة للقوى السياسية تستخدم جزافاً مفردات لم نتعود في العالم العربي على تداولها وليس لها مرجعيات في الممارسة السياسية. حالة فراغ مفاهيم الديموقراطية خلقت مناخاً خصباً للراغبين باستمرار الأوضاع القائمة أو الطامحين لأنواع جديدة من الاستبداد لكي يميعوا الحوار حول المفاهيم والمبادئ ويكتبوا دساتير جديدة معتمدين على قدرتهم لفرض رأيهم من خلال التحكم بالإعلام أو بحركة الشارع أو بدور العسكر.
حزب بن علي يرد على انتقادات الحزب الاشتراكي الفرنسي
فالإعلام والشارع صارا قادرين على طرح مصطلحات غامضة يمكن أن يمرر عبرها أي شيء تحت عنوان "إرادة الشعب". ولكن في ظل محدودية التجربة السياسية السابقة فإن الشارع والإعلام لا يمثلان كل ألوان الطيف السياسي ولا يعطيان صورة حقيقية لمنظومة الرأي العام في العالم العربي. ومن الخطأ اعتماد نهج للمرحلة القادمة مبني على صورة إعلامية مختزلة عن الرأي العام كبديل عن الديموقراطية. وحدها العملية الديموقراطية ومؤسساتها تستطيع أن تضمن مشاركة أوسع شريحة من المواطنين في الحكم.
مازالت المبادرات العربية لصياغة دساتير جديدة تضمن تحولاً حقيقياً للديموقراطية في مراحلها الأولى وهي في بعض البلاد العربية لم تبدأ بعد. لقد آن الأوان لنبدأ حواراً جدياً في العالم العربي حول أسس الديموقراطية بشكل نسد الطريق فيه لمحاولة اختطاف مسار الحراك الشعبي. هذه الورقة هي محاولة متواضعة للدخول في حوار بنّاء حول ماهية الديموقراطية ومحاولة أولية لوضع بعض النقط على الحروف لكي لا تختلط المفاهيم فيستتر خلفها الاستبداد بأشكاله الجديدة.
أولاً- الديموقراطية هي حكم الشعب:الديموقراطية في الأساس هي اجماع عام على كون الشعب هو مصدر السلطة في الدولة. وبالطبع فإن الشعب لديه مصالح متباينة وهذه بدورها تتغيير مع الزمن وتتغيرمعها القوانين التي تحميها. ومهما حاول المنظرون أن يرجعوا التشريع إلى مصادر ثابتة كالدين أو القيم الإنسانية السامية فالتجربة تثبت مراراً وتكراراً أن القائم على تأويل الدين أو المفسر للقيم الإنسانية هو إنسان وهو عرضة للغرور والاستبداد إذا لم يوجد من يردعه. وما أكثر الأمثلة التي استخدمت فيها شعارات الدين أو الإنسانية من قبل أفراد بسطوا سيطرتهم على المجتمع بوصفهم سدنة الهيكل أو رجالات المجتمع وقادته.
وربما كانت الديانات بقيمها الروحية واعية لإمكانية مصادرتها من قبل الحكام الدنيويين ففضلت أن تبقى رادعاً أخلاقياً ضد الاستبداد بدل أن تكون نظاماً يستخدم لتبرير الاستبداد. ومن هنا جاءت تعليمات الأديان السماوية لتترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله وسلمت للناس بأنهم أدرى بشؤون دنياهم. ورغم ذلك استخدم الدين في كل الأزمنة كمبرر لفرض حكم رجال الدين بأشكالهم المختلفة تحت مبدأ أن الحاكمية هي لله وأنهم يمثلون سلطة الله على الأرض. وعندما نقول أن الشعب هو مصدر الحكم فإننا لا نروج للإلحاد بل نقول إن الشعب بضميره الحي هو الذي يحدد القيم الأخلاقية والدينية التي يجب أن تحكمه وأن هذا الشعب قد تكون لديه تأويلات متعددة لهذه القيم وأنها متساوية في الأهمية بين الأفراد ولا يحق لأحد أن يختزل كل القيم الأخلاقية للمجتمع برأيه الخاص. كما لا يحق لأحد أن يصادر حق الشعب مستقبلاً بطرح تفسيرات جديدة لهذه القيم. فإذا كانت الحاكمية هي لله في قوانين الكون فإن الحكمة الإلهية ذاتها رأت أن أمور الدنيا يجب أن تنبني على إجماع الأمة وعلى كون أمرهم شورى بينهم، والضمير "هم" يرجع لجميع أفراد المجتمع. إن الذي يقرر الإرادة الحرة للشعب هو الشعب ذاته لا تتكلم باسمه لا جمعية تأسيسية ولا برلمان إلا بالحدود التي يمنحها إياها وللفترة التي يخصصها. وفي القضايا الكبيرة التي تخص تعديلات جوهرية في مجريات الأمور مثل اعتماد الدستور وتعديلاته فإن الشعب وحده هو الذي يستفتى حتى وإن صاغ ممثليه النص.
ثانياً- المساواة في الحقوق:إن أحد أهم المبادئ الناظمة للديموقراطية يتمثل في كون أفراد المجتمع يتمتعون بجميع الحقوق بالتساوي. ومهما تغييرت القوانين بتغيير احتياجات الشعب لا يمكن للقانون أن ينزع عن أي فرد في المجتمع حقوقه الأساسية. من هنا طورت أغلب الدول لائحة أساسية للحقوق الثابتة. وتعتبر هذه الحقوق الضمانة الأكبر لعدم استبداد فئة من المجتمع مهما كبرت أو صغرت على باقي أفراد المجتمع أو لتعديل القوانين بغرض إضعاف قدرة منافسيها من الوصول إلى السلطة مستقبلاً. هذه الضمانة يجب أن تسبق العملية التنافسية على السلطة.
تنقسم الحقوق إلى نوعين: الأول مرتبط بالإنسان كإنسان. ويشمل الحق في الحياة والمساوة والكرامة والحرية في تقرير المصير والتعبير والعقيدة. أما الثاني فهو الحقوق التي تضمن حماية الإنسان مما قد يمنعه من ممارسة النوع الأول. ويشمل تحقيق العدالة وعدم التعرض للتعذيب و حماية الخصوصية إضافة إلى جملة من الحقوق التمكينية التي تعطي لكل إنسان القدرة على التنافس الشريف في المجتمع مثل الملكية والتعليم والعمل وغيرها وهذه الحقوق لا تقل عن الحقوق الأساسية أهمية. ولا يكفي أن تسمح الحقوق بالمساوة بل يجب أن تكفلها. فإذا أعطينا المرأة حقوقها في المساوة السياسية ولم نعطها الحقوق التمكينية فإن مواطنتها ستبقى ناقصة. ولا تكفي فكرة الحقوق المكافئة والموازية التي يروج لها اليوم في بعض الدوائر لتجاوز هذا الإشكال. وليس هنا المجال لمناقشة شكل لائحة الحقوق الأساسية فهناك نماذج عالمية يمكن أن نرجع إليها. ولكن يجب التذكير بأن هذه اللائحة يجب أن ترافق صياغة الدستور وتكون فوقه لا تحته.
من أكثر المغالطات التي أسمعها في الإعلام أو بين الشباب هو اختزال تعريف الديموقراطية بأنها حكم الأكثرية. في الحقيقة لا يحق لأحد، مهما كانت نسبة تمثيله في الانتخابات، أن يقرر بإزالة أي من الحقوق الأساسية عن الأخرين. إن وجود أكثريات وأقليات انتخابية هو من ضرورات تعريف إرادة الشعب وهي لا تعني بحال من الأحوال أن الأكثرية تفرض رأيها على الأقلية فيما يخص الحقوق الأساسية. فالأكثرية تستطيع أن تختار نظاماً ضريبياً معيناً ولكنها لا تستطيع أن تفرض أن فئة من الناس ستدفع ضرائب أكثر أو أقل بناء على كونها أبناء طائفة معينة. والأكثرية تستطيع أن تفرض لغة رسمية للبلاد ولكنها لا تستطيع أن تحرم أي فرد أو مجموعة من التعبير عن ثقافتهم بلغة مغايرة. وسنتكلم أكثر لاحقاً عن الأكثرية والأقلية ولكننا نكتفي هنا بالتركيز على أن قرار الأكثرية لا يلغي الحقوق الأساسية للأقلية.
وإذا كنا نتكلم عن الحقوق فيجب أن نتوقف عند نقطة هامة وهي أن الحقوق هي دائماً للأفراد. فالأفراد لهم حق التجمع والتنظيم ضمن أي شكل من أشكال التجمع السلمي ليعبروا عن مصالحهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. ولكن القانون لا يجب أن يعطي مجموعة من المجموعات القدرة على تجاوز حقوق الأفراد والتحكم برقاب التابعين لها. فإذا أراد الأفراد أن يمارسوا عقيدة معينة أو يعبروا عن ثقافتهم بطريقتهم الخاصة فهذا يدخل ضمن حقهم في التجمع الحر وليس لأحد أن يفرض عليهم الانتماء إلى هذه المجموعة أو تلك أوممارسة هذا النوع من الشعائر أو ذاك. الطريق لضمان حقوق الأقليات لا تكون بالدفاع عن شكل الجماعات التقليدية (الذي قد يكون لا ديمقراطياً بحد ذاته) بل تتحق بمنع أي أكثرية من فرض ثقافتها على المجتمع. فإذا كانت الضمانات الدستورية كافية لعدم استبداد الأكثرية بالقيم المجتمعية انتفت الحاجة للحديث عن حقوق الأقليات. الكلام عن حقوق مجموعات الأقليات هو بالتعريف تشريع للطائفية. لا يحتاج الدستور الديموقراطي لوضع استثناءات خاصة بالأقليات لأن لجميع المواطنين الحقوق ذاتها بما في ذلك الحق في التنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي حتى لو تعارض ذلك مع أراء الأكثرية.
ثالثاً- منع تركز السلطات في جهة واحدة ورقابة السلطات على بعضها البعض:كثيراً ما يعرف هذا المبدأ بمبدأ فصل السلطات ويقام بتفسيره شكلياً بتوزيع السلطة إلى ثلاث أقسام: تشريعية وتنفيذية وقضائية بحيث تناط بكل سلطة مسؤوليات من نوع معين . ولكن القضية لا تقتصر على تقسيم المسؤوليات بل تتطلب أيضاً توزيع للصلاحيات بحيث تكون كل واحدة من السلطات الثلاث مستقلة بالكامل وتكون مسؤولة أمام الشعب مباشرة عن إستخدامها لصلاحياتها ومواردها وتحقيق مسؤولياتها. فالموضوع ليس مرتبط بتخصص وظيفي لكل من السلطات بل يدخل إلى عمق مفهوم السلطة ذاته. فالأساس هو تجزئة السلطة بحيث لا يتمكن أي طرف من الاستبداد. وبالتأكيد، بقدر ما تتجزأ السلطة تنتفي القدرة على احتكارها بالمطلق.
بالطبع فإن السلطات التي ترتكز مشروعيتها على الانتخاب المباشر من قبل المواطنين يجب أن تكون أقوى السلطات. ولكن صوت الأغلبية لا يجب أن يؤدي إلى ديكتاتورية الأكثرية. وهنا يأتي دور القضاء. فهو وإن كان غير منتخب إلا أنه أساسي للسهر على حماية الحقوق الأساسية. ولكن عدم خضوع القضاء للإنتخاب المباشر لا ينفي ضرورة كونه مسؤول أمام الشعب. وهنا تستنبط الدول آليات تقويمية لعمل القضاة ولطرق تسميتهم للجلوس على القوس تضمن عدالة قراراتهم ولكنها تحفظ استقلال القضاء وعدم وضعه تحت رحمة الأكثرية الإنتخابية. أيضاً، يجب أن تكون هناك ضوابط واضحة لجعل القضاء مؤسسة تسهر على تطبيق القوانين ولكنها لا تصنعها. فصناعة القوانين هي من اختصاص ممثلي الشعب حصراً. ولا يجب أن يترك للقضاة أن يبتوا في القضايا بموجب قناعاتهم الأخلاقية أو الدينية الشخصية.
من ناحية أخرى لا يجب الإكتفاء بتوزيع السلطة إلى ثلاث أقسام ولكن إلى مستويات مختلفة: مركزية ومحلية. فتجمع السلطة في المركز حتى وإن كان موزعاً بين السلطات الثلاث قد يؤدي إلى فرض رأي الأكثرية الانتخابية الوطنية على الأقليات التي قد تشكل أغلبية في منطقتها. لذا تضع أغلب الدول في دساتيرها المبادئ العامة لفصل الصلاحيات والمسؤوليات بين المركز والمحليات كضمان لتمكين المحليات من اتخاذ القرارات الأنسب لإدارة شؤونها. ولا توجد معادلة واحدة للتوازن المطلوب بين المركز والأطراف ولكن المبدأ العام ينص أن القرارات يجب أن تؤخذ في أقرب نقطة لمكان تطبيقها مع وضع سياسات رقابية عامة لضمان عدم تجاوز المحليات مصلحة الوطن العامة. ليست الفيدرالية الحل الأمثل لكل الدول ولكن الحكم المحلي صار من أساسيات الديموقراطية وعلى الدول العربية أن تراجع سياساتها المركزية على جميع الأصعدة.
طبعاً يجب أن يكون لكل سلطة القدر المناسب من الموارد لتقوم بعملها. وبالطريقة ذاتها يجب أن تعطى صلاحيات حقيقية تمكنها من اداء عملها. فمثلاً أن يعطى البرلمان صلاحية المصادقة على القوانين بدون الحق في كتابتها أو تعديلها يعني أن لا دور حقيقي له في صناعة القانون وأنه ليس سوى مجرد ختم على قرارات السلطة التنفيذية. وبالمثل فإن السلطة التنفيذية المنتخبة يجب أن يكون لها حيز من الحرية لإختيار الطرق الأنسب لتنفيذ الأهداف العامة التي تشرع لها السلطة التشريعية.
رابعاً- تداول السلطات:لضمان عدم استبداد الفائزين في الانتخابات بمقادير البلاد لفترة طويلة ولكي يتمكن الشعب من مساءلة الحكام فإن دساتير الدول تفترض فترات دورية تعاد فيها الانتخابات. والأساس أن الذي نجح في إقناع الشعب بما أداه في المرحلة الماضية له الفرصة إذا نجح في الانتخابات كرة أخرى أن يحكم ثانية وثالثة. إلا أن التجربة أثبتت أن الذي يجلس في السلطة لفترة طويلة يحتكر أدواتها وخبرتها بحكم الممارسة والتحكم الفعلي. هذا الخطر حقيقي خاصة في السلطات التنفيذية، لذلك ارتأت أغلب الديموقراطيات أن تحد عدد المرات التي يستطيع فيها بعض الحكام من الترشح للمناصب العامة. وإذا لم تكن هناك قاعدة ذهبية لعدد السنوات ولعدد مرات الترشيح فإن التجربة تتأرجح ما بين أربع إلى سبع سنوات ولدورتين فقط.
تحاول أغلب الدول أن تراكب بين الدورات الانتخابية لسلطاتها المختلفة فتجعل انتخابات السلطة التنفيذية في بعض السنوات وانتخابات السلطة التشريعية في أخرى وكذلك الانتخابات المركزية والانتخابات المحلية. لهذا الإجراء نتيجة إيجابية تتمثل بالسماح باستقراء تقلبات الرأي العام بشكل مستمر. ولكن لها جانب سلبي أيضاً يتمثل في كون التغيير المستمر يحد من قدرة السلطات على موازنة بعضها البعض مما يعطي للبيروقراطية اليد العليا في حين يصبح المنتخَبون غير قادرين على تجاوز التناقضات في صلاحياتهم.
مبدأ تداول السلطات سيف ذو حدين فعندما يحدد القانون فترة زمنية يفترض بعدها تداول السلطة سلمياً فإنه في الوقت ذاته يمنح الذين نجحوا في الإنتخابات كل تلك المدة لتنفيذ سياساتهم. تنفيذ السياسات يتطلب تضحيات، وهو في الغالب يحتاج وقتاً ليثمر. هذا يعني أن المنتخبين سيمرون بالطبع في أزمات وسيستغل معارضوهم عدم وضوح نتائج السياسات القائمة لتحريك المواطنين ضدهم. لذا يعطي الدستور للمنتخبين نوعين من الحصانة. النوع الأول هو احترام مدة ولايتهم مهما تدنت شعبيتهم خلال تلك المدة. والحصانة الأخرى هي عدم ملاحقتهم قانونياً خلال فترة ولايتهم. بالطبع هناك استثناءات في الحالات العظمى. ولكن هذه الحالات يجب أن لا تترك جزافاً ويجب أن تحدد في الدستور وأن تكون لها ضوابط دستورية صارمة.
خامساً- ترافق الحقوق مع المسؤوليات:إن أي نظام ديموقراطي يرتكز أساساً على عقد اجتماعي يقبل بموجبه أفراد المجتع بتقييد حريتهم المطلقة وإعطاء الحكومة بعض الصلاحيات في فرض بعض القيود على مصالحهم وحقوقهم الخاصة مقابل أن تقوم الحكومة بحماية الحق العام للمجتمع ومنع تعدي البعض على حقوق الأخرين. وتعتبر المعادلة بين الحق الخاص والحق العام من أصعب المعادلات توازناً. فتقوية الحق العام على حساب الحق الخاص يؤدي إلى الاستداد والعكس يؤدي إلى الفوضى.
في كل الأحوال يتطلب الحق العام التزامات من كل أفراد المجتمع. فإدارة الشأن العام من دفاع وحفظ الأمن وتوفير الخدمات الأساسية والبنى التحتية وتطوير الحوافز الاقتصادية تتطلب موازنات مالية هائلة. وبدون هذه الموارد فإن قدرة الحكومة على القيام بدورها كضامن للحقوق العامة تصبح في خطر. لذا تفترض النظريات السياسية أن أي حديث عن دولة ديموقراطية يجب أن يربط الحقوق السياسية بدفع الضرائب وتأدية الالتزامات العامة بشكل وثيق ومباشر. فمن ناحية لا يمكن للحكومة أن تقوم بدورها إذا لم يؤدي الأفراد ما عليهم من التزامات. ومن ناحية أخرى لا يمكن مطالبة الأفراد بتأدية واجباتهم إذا كانت الحكومة لا تحمي الحقوق وتضمن التمثيل الديموقراطي للجميع. لذا نجد في المجتمعات الديموقراطية أن دفع الضرائب هو الصفة اللازمة للمواطنة وهي أساس الخطاب السياسي.
وربما كان أحد أهم الالتزامات الأساسية للمواطنة هو المشاركة في الانتخابات. في كثير من الديموقراطيات يستكين المواطنون لمجرى الأمور ويبتعدون عن المشاركة السياسية. ومع تقلص المشاركة يصبح من الممكن لفئة لا تمثل الأغلبية الوصول إلى السلطة. ففي الدول التي يصوت فيها خمسون بالمئة من الناخبين فقط وينجح فيها من حصل على واحد وخمسين بالمئة من الأصوات يكون الفائز قد حصل فعلياً على دعم قرابة ربع المجتمع. وفي كثير من الحالات التي تتطلب تشكيل التحالفات للحصول على الأصوات قد يصل إلى السلطة أشخاص بنسب إنتخابية أقل. وغالباً ما يقوم هؤلاء بإحباط همة المجتمع من التصويت مستقبلاً مع التركيز على شبكة المؤيدين لهم للحصول على أكثريات محدودة في ظل المشاركة الانتخابية الضعيفة.
ولكن لا تكفي المشاركة فقط في التصويت بل يجب أن يقوم النظام الديموقراطي بتشجيع الترشح والمشاركة للجميع في الشأن العام. فلا يكفي أن يشارك المواطنون بإبداء أرائهم وترك الأمور للسياسين المحترفين ليديروا البلاد. فذاك مدعاة للاستبداد بدوره لأنه يخصص الخبرة والمعارف بيد فئة محدودة من الناس لا يستطيع المواطنون تبديلها بدعوى عدم وجود بديل كفوء. إن أحد أهم مبادئ الديموقراطية هي في كونها منفتحة على الجميع قادرة على استقطاب مشاركتهم وتوليد قيادات جديدة باستمرار.
سادساً- الشفافية وتناظر المعرفة:إن المعرفة هي أداة أساسية للسلطة. فالذي يستطيع أن يحتكرها يصبح قادراً على تحريك الأمور لصالحه والذي يجلس في مراكز السلطة يملك مدخلاً إلى معلومات قيمة قد تمكنه من استخدام هذه المعارف لمنع الأخرين من الوصول إلى الحكم. لذا فإن الديموقراطية تتطلب أن يملك الجميع الحق في معرفة مجريات الأمور بطريقة شفافة ليستطيعوا أن يقوّموا أداء المسؤولين وأن ينافسوهم مستقبلاً. في المصطلح الإقتصادي يسمى هذا المبدأ بتناظر المعرفة أي أن يكون الجميع على مسافة واحدة من المعلومات. وفي المصطلح السياسي والإداري يتخذ تسمية الشفافية. أي أنه لا يسمح لأحد أن يخفي عن المواطنين المعلومات التي تمكنهم من معرفة ماذا يجري في الشأن العام وأن تكون جميع الأمور العامة تدار وفق آليات ومعايير معروفة للجميع.
لعل حرية الصحافة هي المجال الأوسع لتطبيق مبدأ تناظر المعرفة. فالإعلام يلعب دور الموزع الرئيس للمعلومات في المجتمع. ولضمان تنوع المصادر وانتشارها ضمن أكبر شرائح مجتمعية ممكنة يجب أن يكون الباب مفتوحاً للجميع لتنظيم وسائلهم الإعلامية بحرية وبدون أي تدخل من القائمين على السلطة سواء أعجبهم ما قيل في الإعلام أم لم يعجبهم. ولكن فتح المجال لمشاركة الجميع في الإعلام له محاذير من مثل وسائل الإعلام قد تنشر أراء تعبر عن قيم يعتبرها البعض في المجتمع لا أخلاقية أوتشهيرية. ولحل هذه الإشكالات يمكن للقانون أن يفرض بعض القيود الأدبية ضد التشهير. ولكن هذا التدخل يجب أن يبقى محدوداً جداً وإلا تم استخدامه لإسكات الأصوات المعارضة. إن الضمان الأنجح لعدم إساءة استخدام الإعلام هو في اخضاع الإعلام ذاته للمنافسة بحيث يصبح الإعلامي معرضاً للنقد من قبل غيره من الإعلاميين. إن محددات حرية التعبير هي من الأمور الأساسية التي يجب الاتفاق عليها عند صياغة الدستور.
من الأمور الأخرى المطلوبة لضمان الشفافية إجبار الحكومة بنشر كامل لجميع البيانات التي تمكن المواطنين من معرفة الجدوى والفعالية التي يتم بها استخدام ضرائبهم والأثر الذي تتركه على تنمية البلاد. سيكون هناك بالطبع بعض المعلومات المطلوب كتمانها ولكن هذه يجب أن تقتصر على القضايا المتعلقة بأمن الدولة. وحتى هذه يجب أن لا تكون حكراً على جهة واحدة. وتحدد الدول المختلفة متطلبات متنوعة من درجات المشاركة والإفصاح لإطلاع عدد محدود من المنتخبين على مجريات الأمور ومن ثم إخراجها للعلن في أقرب فرصة تسمح بها الظروف. فالسلطة المنتخبة يجب أن تكون دائماً قادرة على إتخاذ القرارات الأساسية المتعلقة بأمن البلاد ويقتصر دور الجيش على تنفيذ قرارات المنتخبين وليس العكس.
سابعاً- نزاهة الانتخابات: في المجتمعات الصغيرة قد لا يتطلب الوصول إلى إجماع بين أفراد المجتمع أكثر من جمعهم في مبنى البلدية للحوار. ولكن في القضايا التي تخص الدولة بشكل عام لا بد من طريقة عملية لإستقراء أراء المواطنين. وحيث أنه من المستحيل جمع أكثر من بضع مئات من الأشخاص في مكان واحد للحوار فإن الديموقراطيات ابتدعت أدوات مختلفة لمشاركة أوسع شريحة من المواطنين في اتخاذ القرار ترتكز على الانتخاب والاستفتاء. تشكل المجتمعات الكبيرة نوعاً من المجتمعات المتخيلة لأن أفرادها لا يعرفون بعضهم البعض إلا عن طريق التخيل. ولا بد من تأكيدات على أن أصوات الناخبين تؤخذ جدياً بعين الإعتبار في القرار. فإذا لم تتوفر مثل هذه الضمانات بشكل مقنع للناس فإن الناس ستتخيل أن هناك من يختطف صوتها فشكل العملية الإنتخابية هو بأهمية مضمونها. لذا تضع الدول معايير صارمة للرقابة على انتخاباتها وضمان نزاهتها. ولكنها تضع أيضاً أهمية كبرى على طمأنة المواطنين إلى شفافية الانتخابات. ولا تقتصر نزاهة الانتخابات على شكليات العملية الانتخابية بل تشمل أيضاً تمويل الحملات الانتخابية وعدم تأثير المسؤولين في الدولة على نتائجها باستخدام موارد الدولة العامة.
ثامناً- بناء التحالفات يخلق نوعاً من الإجماع:كما لحظنا حتى الآن فإن الضمانة الكبرى لعدم استبداد فئة أو شخص بالسلطة حتى لو كان يملك أغلبية انتخابية تتمثل بتقسيم السلطة إلى أجزاء صغيرة بحيث لا يملك أحد حصة كاملة منها مما يضطره في نهاية الأمر للتحالف مع غيره لكي يستطيع أن يدير الشأن السياسي. بالطبع فإن ذلك يفرض قيوداً على حركة المسؤولين، ولكنه يجبرهم في الوقت ذاته على السعي الدائم لبناء اجماع عام حول السياسات. ينتقد البعض هذا الجانب من الديموقراطية على أنه ضياع للوقت والجهد وتهديد للدور القيادي للسياسين المبدعين من الاستجابة الفعالة للأزمات. إضافة لذلك فإن سياسة الدولة تبقى معلقة في إطار الوسط. لأن الوسط السياسي هو المكان الوحيد الذي يقبل الجميع أن يتنازل للوصول إليه. هذا يعني أن الأراء السياسية التي تنشأ في اليمين واليسار ستنحرم من الوصول إلى السلطة مهما كانت أفكارها خلاقة أو مبدعة. وعادة ما يكون من الصعب للأراء والأشخاص الجدد اختراق دائرة الوسط.
بالمقابل فإن تجزئة السلطة تضمن أن التحالفات المطلوبة لبناء الإجماع تعبر عن القاسم المشترك الأعظم لأراء المواطنين وهي تحمي المجتمع من التقلبات الكبرى بما يسمح باستمرارية السياسات مع بعض التعديلات الطفيفة مع كل تداول للسلطة. إن عملية بناء الإجماع رغم كل سلبياتها تملك إيجابيات أساسية أهمها أنها تحمي الأقليات السياسية من استبداد الأكثرية. وهي تضمن وضع سياسات عامة للدولة على أساس عملي يقوّمها بحسب جدواها وفاعليتها. فالحوار اللازم لبناء الإجماع يُسقط عملياً الأراء المتطرفة التي تريد فرض سياسات غير ناجعة مبنية على تصورات غير مجربة أو على أسس أيديولوجية.
تاسعاً- الأكثرية الإنتخابية تدير أمور البلاد: الأساس في الديموقراطية هو ايجاد آلية لإختزال أراء المجتمع بكل أطيافه. وكما رأينا سابقاً فإن السياسات الأكثر حظاً في النظام الديموقراطي هي التي تقوم على الإجماع. ومع ذلك فإن الإنتخابات هي الطريقة الوحيدة لوضع الأشخاص الذين يختارهم الشعب في موقع يقودون من خلاله عملية بناء الإجماع. فالمنتخبون للمناصب المختلفة يمثلون جميع القوى السياسية التي أعطاها الشعب ثقته. ودور الأكثرية هو في صياغة أوسع إجماع ممكن للسياسات العامة وليس التفرد بالسلطة، وذلك من خلال بناء التحالفات والحوار والنقاش. ولإنجاز هذا الإجماع سيضطر ممثلو الأكثرية للتنازل عن بعض مواقفهم لإقناع الأخرين بالانضمام إلى الإجماع. وهذا بدوره سيخلق ترتيباً للأولويات فتسقط الأولويات الإيديولوجية وتبقى الأولويات المبنية على النتائج والتجربة.
تختلف الدول في إعطاء الفائزين في الإنتخابات صلاحيات للقيادة والحكم. والصلاحيات هي نوع من القيود الذي يرغم الساسة على التفاوض للوصول للقرارات الأفضل للمجتمع ككل. فالذي يحصل على أصوات الأكثرية يملك الحق في توجيه السياسة ولكن بما أنه لا يملك كل الصلاحيات فهو يقود فقط من خلال الصلاحيات التي يملكها وعليه أن يفاوض الأخرين للحصول على باقي الصلاحيات. وهكذا تحدد الديموقراطية دور الفائز بالأكثرية عملياً على أنه دور مدير الحوار وليس دور الحاكم المطلق.
عاشراً- الديموقراطية عملية مستمرة ولا يمكن خلقها من العدم:فهي تتطلب حواراً مجتمعياً معمقاً من قبل جميع فئات المجتمع وتعاوناً لبناء مؤسسات الدولة. لقد أثبتت التجربة أن الديموقراطية لا يمكن أن تقوم بدون إجماع عام لإنجاحها وهذا الإجماع لا يكون بدون التواصل مع جميع شرائح المجتمع من خلال مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والأحزاب ولا يأتي بفرض أي طرف ذاته متحدثاً باسم الآخرين. الديموقراطية لا تفرض فرضاً بل يتم بنائها لبنةً لبنة. ويتطلب الأمر قيام الجميع بتحديد مواقفهم الأساسية من جميع النقاط التي وردت أعلاه: ما هو الحد اللازم لتقسيم السلطات وما هي مستوياتها وصلاحياتها وما هي آليات رقابتها على بعضها البعض؟ ما هي الضمانات المقبولة لتحديد الحقوق الأساسية وما هي الحقوق العامة والخاصة التي ستضمنها الدولة وكيف؟ كيف ستتداول السلطة وعلى أي مستويات؟ ما هي آليات ضمان نزاهة الانتخابات؟ ما هي الصلاحيات التي ستملكها الأكثرية؟ ما هي الضمانات للأقلية للاستمرار بالمشاركة وعدم الإقصاء مستقبلاً؟ ما هو دور الحكومة في تمثيل الحق العام وإلى أي درجة ستتدخل الدولة في الإجتماع والإقتصاد وضمن أي محددات؟ وغيرها من الأسئلة؟
كل من يدعي الديموقراطية مطالب اليوم بالمشاركة في هذا الحوار. فالشرط الأساسي لإنجاح الديموقراطية يكمن في الشفافية في المواقف والأراء. ليس من المنطقي أن تعطى الأكثرية الانتخابية الحق المطلق في حكم البلاد بدون اتفاق ضمني حول المبادئ التي وردت أعلاه. فذلك من شأنه استبدال استبداد بآخر. الشعب يستحق أن يعرف مسبقاً كيف سيتم حكمه وأن يقوم بتقويم حكامه المستقبليين على أساس ما وعدوا بتحقيقه. ولكن الأهم أن الشعب يستحق أن تكون سياسات حكامه المستقبليين مرتبطة بأولويات واقعية وحقيقية وأن لا يخدعه أحد بأجندات ايديولوجية لا تستطيع حل مشاكل المجتمع. الديموقراطية تفترض أن يحدد الحكام المستقبليين كيف سيحكمون لا أن يكون هدفهم الوصول إلى السلطة.
عشرة مبادئ من أجل الديموقراطية
(بقلم عمر عبد العزيز الحلاج)
نقلا عن موقع الأمانة العامة للتنمية